
في زمن باتت فيه الأموال تحدد الوجهات وتتحكم في مصائر اللاعبين، اختار أنخيل دي ماريا مسارا مختلفا تماما حين قرر العودة إلى نادي طفولته روساريو سنترال الأرجنتيني مفضلا الحنين والانتماء على الراحة والثراء. في عمر السابعة والثلاثين وبعد مسيرة أوروبية زاخرة بالألقاب والإنجازات قرر الجناح الأرجنتيني كتابة الفصل الأخير من حكايته الكروية في المكان الذي شهد بداياته ومهد انطلاقته نحو المجد العالمي
هذه العودة لم تكن مجرد صفقة انتقال عادية بل كانت لحظة استثنائية حملت في طياتها كل مشاعر الوفاء والحنين والعرفان. استقبله الجمهور بدموع الفرح وهتافات القلب وصفق له الآلاف كما لو أن الزمن عاد إلى الوراء وعاد الفتى النحيل الذي ظهر لأول مرة مع الفريق عام 2005 وهو في السابعة عشرة من عمره. دي ماريا اختار أن يختم رحلته كما بدأها في روساريو وأن يرد الجميل للنادي الذي آمن بموهبته حين لم يكن أحد يراه
رحلة دي ماريا نحو النجومية بدأت بعد انتقاله إلى بنفيكا البرتغالي عام 2007 حيث قدم أداء مميزا لفت أنظار كبار القارة العجوز ليحط الرحال بعدها في ريال مدريد عام 2010. تحت قيادة جوزيه مورينيو ومانويل بيليغريني وكارلو أنشيلوتي تألق الجناح الأيسر بشكل لافت وكتب اسمه بحروف من ذهب حين لعب دورا حاسما في تتويج الفريق بلقبه العاشر في دوري أبطال أوروبا “لا ديسيما” عام 2014
بعد الإنجاز التاريخي مع الميرينغي خاض دي ماريا تجربة قصيرة في مانشستر يونايتد ثم انتقل إلى باريس سان جيرمان حيث عاش أنجح فتراته على الصعيد الفردي والجماعي رفقة كوكبة من النجوم وساهم في هيمنة النادي الباريسي محليا ووصله إلى نهائي دوري الأبطال. قضى في باريس ثماني سنوات كاملة بين 2015 و2023 ليغادر بعدها ويعود مجددا إلى بنفيكا في خطوة تكريمية لفريقه الأوروبي الأول قبل أن يختار إغلاق الدائرة بالعودة إلى روساريو
قرار دي ماريا بالعودة إلى الأرجنتين جاء في وقت كان بإمكانه فيه التوقيع لعقود خيالية في الخليج أو أمريكا لكنه فضّل أن يسير عكس التيار وأن يقدّم رسالة إنسانية كروية صافية مفادها أن الانتماء والعاطفة لا زالا قادرين على الانتصار أمام سطوة المال. فقد قبل بخفض كبير في راتبه وبمستوى تنافسي أقل فقط من أجل أن يرتدي مجددا قميص الفريق الذي نشأ فيه وساهم في تشكيل شخصيته ومسيرته
في عصر باتت فيه العقود الفلكية والصفقات المليارية تحكم كل تفاصيل السوق الكروية تشكّل عودة دي ماريا إلى نادي طفولته لحظة نادرة بل نموذجاً يحتذى به للاعبين الباحثين عن معنى أعمق لكرة القدم. لقد اختار التضحية بالراحة والثراء في سبيل المساهمة في مشروع رياضي وإنساني مع فريق يعاني من صعوبات رياضية واقتصادية لكنه يملك قاعدة جماهيرية وفية وشغوفة
عودة دي ماريا ليست مجرد صفقة بل موقف ورسالة واختيار لقيم بدأت تندثر في ميدان تغزوه المصالح. إنه يقدّم درسا في الوفاء والانتماء ويمنح لجماهير روساريو الأمل بأن الحلم لا زال ممكناً حين يكون القائد صادقا ومؤمنا بما يفعل. أنخيل دي ماريا يكتب بذلك الفصل الأخير من مسيرته الكروية بقلم الوفاء وبلغة العطاء في مدينته وبين أهله وفي ملعبه الأول. إنها نهاية تليق بأسطورة